عندما لا يكون الانسان
آمر نفسه ومخيرا، وينساق طبقا لما يملي عليه
الاخرون، فهذا الانسان
يكون عرضة للاهتزازات والهزات، و يتخبط خبط عشواء في كل اموره، لانهفقد
ذاتهوارادته وتوازنه وسيطرتهعلی اموره، و يصبح بالتالی كالدمية التي يحركها
الاخرون... والمشكلة هنا تكمن في ان هذه الحالة النفسية قابلة للعدوی والإنتقال
بشكل او بآخر للآخرين، وتنعكس سلبا علی البيت والعائلة والمجتمع والدولة... لذا
نجد ان الدول المتقدمة تعتمد في مناهجها من الروضة الی آخر مرحلة من الدراسة ـ
حتی للمسنين ـ علی تكوين الذات والشخصية السوية، لان الامر يمس مجمل مكونات
العملية الاجتماعية والثقافية والسياسية و حتی الاقتصادية، ويترك اثره سلبا
اوايجابا علی الاجيال القادمة...
والملاحظ ان هذه الحالة
قد تظهر في التكوينات السياسية نتيجة عوامل تاريخية او بيئية او خارجية، وقد
تظهر شخصيات وابطال في نظر مؤيديهم... وهنا تصبح المشكلة اعقد والكارثة اعظم و
تستوجب العلاج، وذلك بعد تشخيص دقيق ودراسة مستفيضة للحالة... والملفت للإنتباه
ان مثل هؤلاء الرجال القادة والذين يحملون مثل هذه العاهات والعقد، يخلقون في
نفوس مريديهم نفس الاعراض المرضية التي يحملونها، اضافة الي تعقيدات نفسية اخری
تصاحبها، وذلك بسبب الثقة المتولدة لدی المريدين وطاعتهم العمياء، نتيجة
استبداد البيئة التي نشاوا فيها في فقد حق الاختيار...وظهور هذه الحالة تكون
عادة طاغية في المجتمعات المتخلفة او التي تمر بازمات سياسية، بحيث تفرز شتى
الظواهر... وقد تكون " الجبهة التركمانية " احدی العينات الجديرة جدا بالتحليل
والتشخيص من قبل المختصين في السايكولوجية السياسية، وبعد دراسة للنظرية
الاتاتوركية والهتلرية الفوقية الممزوجة بالديمقراطية، مع الاخذ بنظر الاعتبار
ان الفكرة الكمالية العنصرية سبقت من حيث التطبيق النازية والفاشية...
الكاتب المصري ذو الاصل
الكوردي عباس محمود العقاد، كتب كتابا في حينه عن الشيوعية باسم "مذهب ذوي
العاهات" وتكلم عن تلك النظرية والسمات التي تحملها و تاثيراتها علی شخصية
معتنقيها وانعكاساتها السلبية علی البيئة الاجتماعية وعلی مجمل عملياتها،
وبالتالي خطورتها علی البشرية... وآنذاك وبسبب الملابسات التي افرزتها الحرب
العالمية الثانية بانتصار الشيوعية علی الهتلرية، قوبلت اطروحات الكاتب علی
الاغلب بالرفض، وحتی بالاستهجان، ناهيك عن اتهامه بالعمالة للغرب...ونبؤة هذا
الكاتب والاخرين من الشرق والغرب وبالاستقراء وعلی ضوء الثوابت في الطبيعة
البشرية وانعكاساتها علی المجتمع البشري، تحققت ولكن بعد عقود...المشكلة
الكامنة في التاريخ الانساني، هي انه في كثير من الاحيان يطول عمر السلبيات
والازمات، وبالتالي تمر علی الامم حالات ماساوية تتميز بتدمير واسع، كما كان
الحال مع عهد صدام حسين وحزب البعث في العراق، حيث حكما العراق ما يقارب 40
عاما بالحديد والنار، وكما هو الحال مع تركيا و دول اخری في المنطقة...وبقاء
حكم ما لمدة طويلة اوحالة الثبات السياسي الظاهري لا يعبران بالضرورة عن
الاستقرار والتقدم المنشود في المسار الاجتماعي والسياسي.
ولو استقرانا الحالة
التركية علی ضوء ممارساتها مع الكورد وبقية الاقوام وفق النظرية الكمالية التي
بنيت الدولة التركية عليها اساسا، ومازالت تسير علی هديها في تعاليها علی الامم
الاخری حرفيا، وحرمان الآخرين حتی من حق الاحتفاظ بالهوية واللغة، لوجدنا مدی
خطورة الجماعات او الاحزاب التي تربت و صنعت باعين تركيا وتحت رعايتها حين
تواجدها في تركيا ، ومن ثم عودتها الی كردستان المحررة ، ثم الی العراق بعد
زوال النظام البائد...
لعل اسطع مثال ـ وكما
اسلفت ـ علی بروز هذه العاهة الكمالية هو ظهور حزب او ظاهرة الجبهة التركمانية
في العراق و كوردستان وبالذات في كركوك، تلكم الجماعة التي فرت من قبضة صدام
لتقع في اسرالعقائد الكمالية التي تعتبرصراحة العنصر التركي"الجينات التركية"
افضل العناصر قاطبة "تركي واحد يقابل الدنيا كله" و" ما اسعد الذي يقول انه
تركي" كما قال بعد ذلك هتلر" المانيا فوق الجميع"... حيث اثبتت الوقائع
والاحداث بان هولاء مجندون اتراك تربوا خصيصا وبعناية فائقة لنقل وزرع الفكرة
الكمالية بين ابناء الاقلية التركمانية لدق اسفين الشقاق بينها و بين الكورد في
كوردستان والعراق وتصوير الكورد وكانهم خلقوا " من قبل من نار السموم"... هذا
في حال ان العلاقات بين الكورد والتركمان لم تشهد اية شائبة تدعو الی عدم
النسيان او تذكرتها في كل حين وآن من يوم مجئ التركمان الی كوردستان، ما عدا
حادثة واحدة اثيرت في العام(1959) نتيجة تعاون بعض التركمان المنخدعين مع رجال
المخابرات ضد الكورد، واسفرت عن سقوط الضحايا من الطرفين... و بعدها عادت
العلاقات الي سابق عهدها... والكل يعلم بان مثل هذه الحوادث متوقعة وواقعة حتی
بين افراد عشيرة واحدة او عائلة واحدة ، هذا لا يعني الضرب علی وتر ولحن هذه
الواقعة او تلك الی يوم الدين.وهذا الدورالجبهوي في تخريب العلاقات بين الاقوام
بعد عودتهم واستغلالهم لاجواء الحرية في كوردستان ومن ثم في العراق، يثبت ان
هروب هؤلاء من قبضة صدام واستنجادهم بتركيا، لم يكن من حيث الواقع العملي الا
كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
ان القول بالاستفادة من
التجربة التركية ، او نقلها الی العراق لترتيب البيت العراقي والكوردستاني علی
اساسها، تكون بمثابة نقل كارثة لم تحن بعد اوان انفجارها في تركيا، ولا يبشر
بخير...وان نقل اسوا ديمقراطية في العالم افضل من النموذج التركي... وان من
يدعي بان الديمقراطية التركية فيها خير العراق فليقرا في وجوه افراد وتصرفات و
مواقف الجبهة التركمانية الذين"احلوا قومهم دار البوار"... انا كباحث و خبيرفي
الشؤون التركمانية، اضم رايي الی راي من يری ان تمنع اية حكومة كوردية او
عراقية منح اجازة العمل السياسي لهذه الجماعة "الجبهة التركمانية" اسوة
بالحكومات الاوربية التي تحظر انشطة الاحزاب النازية، ف"نوم الظالم عبادة"،
وتمهيدا لقطع دابر هذه الفكرة الوافدة... لان هذه الفئة القليلة لا تمثل في
اطروحاتها وداعة التركمان و طيبتهم وسماحتهم وفطرتهم النقية، ولا تريد مصلحة
التركمان اولا، ولا تلائم طبيعة المجتمع العراقي والكوردستاني ثانيا. انها فئة
تاتمر باوامر تركيا في تعكير صفو العلاقات بين الاطياف والاقوام وخاصة ضد
الكورد ووفق خطة مبرمجة بدقة متناهية ... وكل رهان عليها و من اي طرف هو رهان
خاسر عاجلا ام آجلا، لانها جماعة ماجورة و" آخر المعروف ينضرب بالكفوف".
ان اي طرف او جماعة في
العراق او المنطقة تريد ان تستفيد من التجارب الديمقراطية، فلتذهب الی كوردستان،
فهي اقرب إليهم من حبل الوريد... انني بالرغم من ملاحظاتي وانتقاداتي
لديمقراطية كوردستان، لكنني عندما اقيمها وانظر اليها من منظار المقارنة بالدول
المحيطة وخاصة بتركيا، اجدها اصلح واجدر بالاستفادة منها ـ بعد تشذيبها وعرضها
للجرح و التعديل ـ وجعلها نموذجا ، لان ديمقراطية تركيا هي للاتراك فقط، مثلها
مثل ديمقراطية الحزب الواحد في العراق السابق وغيره من الدول المحيطة، مع وجود
الفوارق بطبيعة الحال... اي انها ديمقراطية عرجاء لا تصلح لمجتمع متعدد
القوميات والاطياف، لانها بنيت اساسا علی محاربة مكونين اساسيين الدين والاقوام
غير التركية...
كثيرا ما نسمع ان هذه
الدولة العربية او تلك خطت خطوة معينة في تطبيق الديمقراطية ويشاد بها، في حين
لا تتجاوز في نفوسها ومساحتها مدينة كوردستانية من بين مدنها الاربعة، ولكن لا
يشاد و لا يذكر" بضم الياء" بلد كوردستان الذي يبز بشهادة العدو قبل الصديق
الكثير من الدول في المنطقة في كونه اجمل من الكل بديمقراطيته، لانها تحمل في
طياتها كل الالوان وكل الاطياف...ناهيكم عن مؤامرة الاعداء والشواذ، والتي
تستكثر علی الكورد هذا التقدم ولا تريده الا ان يعيش في ظل الاستبداد...
والسؤال الذي يطرح نفسه علی الكورد والمنصفين من حلفاءهم ومناصريهم الذين
قاوموا احد اكبر استبداد في التاريخ الانساني ، هل سيهتزبنيان ديمقراطيتهم امام
المتربصين ام سيكون ابهی؟!