| |||||
| |||||
هل كانت قراءة ابي زيد ((مغرضة))؟ فاضل قره داغي رحل نصر حامد ابو زيد وبقي السؤال: مالذي اضافه الرجل؟ وايا كان الجواب فالمهم هو السؤال الاخر: هل يقيض لمشروعه الاستمرار ام ان انه ترك ارثا عقيما لايمكن متابعته؟ تاثير الرجل وصل الى خارج الوطن العربي، واقصد بالذات في كردستان العراق حيث هناك من كتب في تقريضه، وبالطبع هناك من كتب ينقده، فهمه من فهمه وشوه فكره من لم يفهمه.
رحل الرجل ونحسب له في حسناته عدم انخراطه في المعارك ضد الاسلام التي تبحث عن مقاتلين من ديار الاسلام. اختلفنا معه ووافقه اخرون ولم نسأل ولم يسألوا هل تم ذكر جميع الاسماء التي كانت خلف الحملة ضده. واسمحوا ان ابدأ برأيي حول تلك الحملة قبل ان ابدأ بنقد جزء من مشروعه.
السؤال المنطقي هو: لم كانت الحملة عليه شرسة وقد كان هناك من هو احق بها؟ هل كان ابو زيد اكثر زندقة حتى يحاكم وتطلق منه زوجته ام ان وراء الاكمة ماورائها؟
فتش عن النظام، هذا ماسأقوله.
يتحدث ابو زيد في كتابه نقد الخطاب الديني الذي جلب عليه النقمة (ص 146 من الطبعة الثانية)عن المخاطر التي كان يتعرض لها اليسار نتيجة الانقلاب السياسي والفكري ((الذي بدأت بوادره في انقلاب مايو 1971 ، ولم يثمر ثماره المرة السوداء الا مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، حيث اسلم النظام قياده كاملا لاعداء الامة التاريخيين: الاستعمار العالمي والصهيونية الدولية)).
ان هذا الكلام ليس اتهاما لنظام السادات فحسب بل وفيه اتهام للنظام الحالي في مصر باعتباره امتدادا لنظام السادات وامتدادا للانقلاب على الارث الناصري.
بل اننا نحس بالتشفي في كلامه حول مقتل السادات الذي لايعتبره جريمة ولاارهابا بل ((حادثا)) (ص151):
((.. حادث المنصة في مصر علي ايدي بعض الافراد من القوات المسلحة المنتمين الى تنظيم "الجهاد" وماقوبل به ذلك الحدث من ارتياح واحساس "مؤقت" بالخلاص من جانب القوى المصرية الوطنية - والعربية- كافة، تلك القوى التي عانت من تسلطية النظام وقمعيته بدرجات متفاوتة، والتي جمعتها في السجون والمعتقلات قرارات سبتمبر الشهيرة)).
ومن حقنا بعد ذلك ان نشك في اسباب تلك الحملة ضده، على الاقل فيمن حركها وراء الكواليس او داخلها، اي من حقنا اعتبارها انتقاما او حربا لطرف ثالث.
ابو زيد لم يبد رأيه ولم يجزم بصحة ما قاله الاخرون واكتفى في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه بنقل رأيين: من رأى في الحملة تسلطا من ((رجال الدين))، ومن رأى فيها دفاعا عن شركات توظيف الاموال (ص21).
القراءة المغرضة الكتاب يدهشنا بانه حافل بالاخطاء في مجالات التفسير والحديث وعلومه وحتى التاريخ والفلسفة. وقد لاتدهشنا انتقائيته وتعميمه فالانتقائية والتعميم مرضان لايسلم منهما احد، غير انهما تضعانه في خانة من يقوم بالقرءاة التي وصفها هو نفسه بانها ((مغرضة)).
ان التعامل مع النصوص او تاويلها، حسب ابي زيد، يجب ان ينطلق من زاويتين؛ زاوية االتاريخ بالمعنى السوسيولوجي لوضع النصوص في سياقها من اجل اكتشاف دلالتها الاصلية وزاوية السياق الاجتماعي والثقافي الراهن الذي يمثل دافعا لتاويل تلك النصوص وذلك من اجل التفرقة بين الدلالة الاصلية التاريخية وبين ((المغزى)) الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة. وتمارس ايديولوجية الباحث دورها في التعسف في التعامل مع النصوص وفي تاويلها مما يجعل الوثب من التاويل الى ((التلوين)) سهلا وتتميع الحدود بين الدلالة والمغزى (142-143).
يصنف ابو زيد القرءاة الى قراءة بريئة وغير بريئة والنوع الثاني له مبرراته اذا كان اساسه ابستمولوجيا وليس ايديولوجي، والقرءاة الاسوأ هي القرءاة المغرضة التي لاتنتج الا التلوين. وتلك القراءة المغرضة تنشأ عن نزعة ذاتية نفعية، وتنشأ ايضا عن نزعة وضعية شكلية تخفي توجهاتها الايديولوجية خلف شعارات الموضوعية العلمية والحياد المعرفي وهذه الاخيرة تدعي بانها قادرة على الوصول الى الدلالة واكتشاف الحقيقة في حين ان ماتصل اليه ليس في الواقع الا ما كانت تريده منذ البداية (ص143).
ولايمكننا في هذه المقالة المختصرة ان نورد سوى بعض من كثير يحفل به الكتاب من اخطاء هي في نفس الوقت ادلة على قرءاة ابي زيد المغرضة والتي تنتمي الى الاساس الثاني للقراءة المغرضة كما صنفها هو نفسه، اي تلك النزعة الوضعية التي تخفي توجهاتها الايديولوجية.. الخ. ان ابي زيد يصادر على المطلوب حيث يستنتج ماكان قد قرره مسبقا.
ونبدأ بالامثلة البسيطة مثل رأيه المسبق حول اهدار الواقع من اجل نص جامد معناه ودلالته ثابتان يتحولان الى اسطورة واسئلة عقيمة (130)، ثم يسوق مثاله حول طبيعة النص ونوع الخط الذي نزل به وهل تنطقه الملائكة بالعربية.. مما يملؤ (لاحظ كلمة يملؤ) الخطاب الديني ولاتفوت ابي زيد ملاحظة ان هذا يطرح في البرامج التلفزيونية فيقول ((وخاصة الاعلامي)). ولاحاجة للتخصيص، فحتى هذا نادر فكيف يصح ان نسحب شيئا فريدا سمعناه، او ربما سمعناه ممن سمعه، على مجمل الخطاب الديني؟
مبالغة اخرى قوله بارتباط اغلب علماء الحديث بالسلطة في مختلف العصور (128) وهذه عدا عن كونها اطلاقية لاتناسب من يدعي البحث العلمي فهي تنطلق من قناعة مسبقة تخفي توجهها الايديولوجي تحت شعار الموضوعية العلمية.
ونفس الانتقائية نراها في مثال لمن لم يجوز غسل الكلية او نقل الاعضاء باعتبار ان ذلك يؤخر لقاء الانسان بربه (185)، وبالطبع فمن بين الملايين وحسب نظرية الاحتمالات سيوجد المئات ممن يقول شذوذا من القول فلا باس اذن في واحد او اثنين. وقد يبدو تعميم هذا الشذوذ على الجميع شذوذا مماثلا غير ان هذا في الحقيقة هو عين القاعدة، فكما قلت الانتقائية والتعميم مرضان لايسلم منها احد، والفرق هو فيمن يستخدمها تحت شعار الموضوعية العلمية.
ثم هناك الحديث عن اسلمة العلوم والفنون والاداب التي يصل منها، ظاهرا، ابو زيد الى ان ذلك ربط للدنيا بالدين والاصح ربطها بتأويل سلطوي يؤدي الى نفي الانسان ونفي العالم (42). وهذه النتيجة هي الاصل الذي ينطلق منه ابو زيد ليصل الى نقد تلك الاسلمة ثم يصوغ القضية على الورق عاكسا الاصل والنتيجة.
والبدء من النتيجة، وهي من خصائص القراءة المغرضة، يسقط من حساب المرء الاحتمالات الاخرى. يوازن ابو زيد بين المعتزلة والاشاعرة، ولانه يفضل المعتزلة فهو، في نقده لليسار الاسلامي، يفضل قولهم حول ((شيئية المعدوم))، حيث تتمتع الموجودات قبل تجسدها بنوع من الوجود ويقول بان قيم الوجود الحق في مجتمعاتنا غائبة، اي معدومة، ولكنها حسب الراي الاعتزالي لها نوع من الوجود كأمنيات او احلام او برامج قابلة للتحقيق، لكن قد يؤدي بنا الراي الاشعري الذي ينفي المعدوم تماما الى الياس والاستسلام والضعف (184). حسنا وماذا عن المعدوم السئ؟ هل لشيئيته نفس النتيجة الايجابية؟ نستطيع ان نورد الاف الامثلة لكني لن اذكر الا مثالا واحدا في عين كتاب ابي زيد. فهو ينكر الحسد والعين كحقيقتين، ويقول بان ذكرهما في النصوص الدينية ليس دليلا على وجودهما الحقيقي وانما على وجودهما في الثقافة كمفهوم ذهني (212). وهكذا فهما معدومان لم يتجسدان ولكن لهما نوع من الوجود القابل للتحقق، وبالطبع علينا ان نعتقد انه من الخير ان يتحققا مادمنا قد فضلنا الراي الاعتزالي، او بالاحرى استخدام ابي زيد لمسألة شيئية المعدوم.
والحديث عن العلمانية مثال اخر حول التلوين الذي مارسه ابو زيد دون وعي. ان منهج ابي زيد يركز على التاريخية بما فيها تاريخية الوحي لكنه لايركزعلى العلمانية كحدث تاريخي لانها بذلك تتساوى مع ماذكره عن اتحاد السلطة الروحية والسلطة الزمنية (وهذا الاتحاد هو نقيض العلمانية) كحادثة تاريخية تعود الى زمن النبي (ص41). وعندما تكون العلمانية حدثا تاريخيا في المجتمعات الغربية وعندما نعاملها كما نعامل النصوص (وما الفرق؟ فالكل "نتاج") نكون قد اهدرنا واقع المجتمعات الاسلامية وموروثها من اجل نصوص جامدة لنصل الى مغزى ثم تصبح الحدود بين الدلالة والمغزى مائعة (اننا نستعمل تعابير ابي زيد). بل ان ابي زيد يعترف بان العلمانية ابعد ما تكون عن التاصيل في المجتمعات الاسلامية (82). والحق ان هذا النقد لتفضيل ابي زيد للعلمانية باستعمال نفس ادواته هو نسخة اكثر تعقيدا من المقولة الشائعة: ((العلمانية نتاج المجتمعات الغربية ولاتنسجم مع الموروث الديني والتاريخي لمجتمعاتنا الاسلامية فهي حل مستورد غير مناسب)) ولاجديد تحت الشمس الا التعبيرات والا النقد الداخلي لفكر ابي زيد.
ذكرنا طرح ابي زيد حول التوحد بين السلطتين الروحية والزمنية الذي مورس زمن النبي. ويسأل ابو زيد: هل هذا التوحد دائم ام خاص بشخص النبي؟ لقد كان الخلاف بين الانصار واهل مكة حول هذه النقطة، وكان من الواضح وجود اتجاهين اولهما اتجاه للفصل تزعمه اهل المدينة والثاني اتجاه للدمج تزعمه اهل مكة وتغلب اتجاه الدمج (42).
بغض النظر عن تعبير ((اهل مكة)) الذي لم يكن مطروحا بل كان هناك بالاحرى تعبير (المهاجرين) الذي شمل اهل مكة وغيرهم من المهاجرين فان ماطرحه ابو زيد هو ذلك التلوين الذي انتقده، لاننا حتى لو سلمنا بوجود اتجاهي الدمج والفصل فهل كان مطلب الانصار بان يكون من يخلف النبي منهم اتجاها للفصل؟ وهل كان مطلب المهاجرين بان يكون الخليفة منهم اتجاها للدمج؟ كل كان يريد ان يخلف النبي الذي دمج بين السلطتين، واذن فكل كان يريد الدمج. ان فرض ابي زيد بوجود الاتجاهين لايسلم له ولذلك لم يحاول اثباته، والاستنتاج المبني على ذلك الفرض التعسفي غير منطقي ولذلك لم يحاول كذلك اثبات هذا الاخر.
ونوافق ابي زيد تخوفه من نشوء كهنوت يحتكر تاويل للنصوص، لكن تلك المخاوف تشابه اية مخاوف اخرى في اي مجال اخر، فالمخاطرة واردة في الدين وفي الفكر، والاهم من ذلك ان التغلب على سوء الاستخدام ليس امرا صعبا مادام الاسلام يعتمد على العلم (بالمعنى الاسلامي لكلمة العلم) المبذول للجميع بشرط الجد في تحصيله، فليست هناك مسائل مستغلقة لايكمن لاحد ان يصل اليها الا المختارون من قبل سلطة فوق بشرية كما هو حال الكنهوت في كثير من الاديان. ان امر كهذا لايمكن حدوثه في علوم تعتمد على النصوص كالحديث والفقه واصوله، غير انه وارد في التفسير، اي عندما يلجأ المرء الى التاويل وزحزحة النص، وهو اكثر ظهورا في التاويل الباطني للقران، وهو الذي يزعم ان للقران وجهان؛ ظاهري وهو التفسير الماثور والذي يعرفه الجميع وباطني وهو لايتم الا بالكشف. ويجدر هنا ان نذكر ابن عربي وتاويله الباطني، فهنا ندخل مملكة الكهنوت الذي يحصر المعرفة (بمعناها التصوفي الغالي) في ملكات لايحوزها الجميع. والعجب، او قل ليس عجبا، ان يكون لابن عربي ونظرته الى النصوص مكانة كبيرة عند ابي زيد مع انه كان يجب ان يحصل العكس.
اذن فالنص هو الترياق ضد سلطة الكهنوت والخطر هو في تاويل النصوص سواءا كان تاويلا دينيا ام تاويلا يدعي الحداثة، فالكل يسيرون في نهاية الامر على طريق الكهنوت؛ كهنوت ديني وكهنوت علماني.
والحق ان احد مظاهر الكهنوت ذلك هو الوثوقية التي نراها تدعي امتلاك الحقيقة او امتلاك الطريق الموصلة الى الحقيقة، ويتفاوت التعبير عنها حسب الاتجاه وحسب الشخص، وايضا حسب انتباه الشخص لما يقوله. ونرى تلك الوثوقية بارزة عند ابي زيد، وهذان مثالان واترك التعليق عليهما للقارئ:
((وليست العلمانية في جوهرها سوى التاويل الحقيقي والفهم العلمي للدين- ص31))، ((معركة تخوضها قوى الخرافة والاسطورة باسم الدين والتمسك بالمعاني الحرفية للنصوص الدينية. وتحاول قوى التقدم العقلانية ان تنازل الاسطورة والخرافة احيانا على ارضها- ص63))، ولاينفع بعد ذلك القول الشائع بان مبدأ عدم امتلاك الحقيقة هو مبدأ العلمانية الجوهري والاساسي (ص37)، فالوثوقية تبطل مفعوله عدا انه يقال، على الاقل في ذلك الموضع وكما فعل ابو زيد، استباقا للاعتراض وسوق مثال الانظمة الشمولية السابقة في اوروبا الشرقية التي ادعت امتلاك الحقيقة ورفضت حق الاختلاف.
الخطاب الديني يصور، حسب ابي زيد، العلمانية كخطر ويربطها بالماركسية ويختزل الاخيرة في الالحاد ثم يربط بينهما وبين الصهيونية (83). وابو زيد في هذا على حق فالخطاب الديني فيه مثل هذا الطرح التبسيطي، وكان بمقدور ابي زيد ايراد نصوص في هذا الخصوص لكنه اورد نصا للقرضاوي من كتابه الصحوة الاسلامية بين الجحود والتطرف (وذكر ابو زيد الكتاب بصيغة "الجمود" وهذا خطأ وان كان عنوانا لاحدى الطبعات) دليلا على ذلك: ((والماركسية تدعو الى نفسها بلا خجل والصليبية تخطط وتعمل بلا وجل)). وهذا انتزاع للكلام من سياقه لان القرضاوي ذكر ذلك في معرض استنكاره للتضييق على التيار الاسلامي والتساهل مع الماركسية والصليبية. وهذا تعامل غير سليم مع ((النصوص)). وابو زيد نفسه يفعل العكس مع ماركس ويبرر مقولته (الدين افيون الشعوب) بانها لاتقصد الدين ذاته بل الفكر الديني والتاويل الرجعي للدين (83). وربما كان المقبول لو انه قال ان تلك المقولة تعبر عن ((ماركس الشاب)) لكنه لم يفعل ذلك بل شوه قصد ماركس الذي قصد الدين ذاته ووصفه بانه وعي مقلوب للعالم وانه نتاج للدولة والمجتمع (لاحظ بان ماركس الشاب يدخل الدولة التي هي بناء فوقي في نشوء الدين الذي هو بناء فوقي مثلها وسوف يجعل ماركس الناضج من كليهما نتاج للبناء التحتي اي الوضع الاقتصادي-الاجتماعي ولاحظ ايضا قول ماركس بان الإنسان هو الذي يصنع الدين وسوف يتخلى عن هذا القول في مؤلفاته اللاحقة). ونستمر مع ماركس الشاب الذي يقول بان ذلك حدث لان المجتمع والدولة نفسيهما عالم مقلوب. ان الدين هو النظرية العامة للعالم، منطق العالم في صيغته الشعبية، حماسته، جزاءوه الاخلاقي.. الى ان يقول: اذن فالنضال ضد الدين هو بصورة غير مباشرة نضال ضد هذا العالم الذي يمثل الدين عبيره الروحي.. ثم يقول فيما يشبه التبرير لوجود الدين: إن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى، احتجاج على ذلك الشقاء.
وليس هذا اول تشويه لفكر ماركس بل سبقته تشويهات اخرى منها قول ابي زيد: وليس مهما في سياق الخطاب الديني اهدار مبدا الجدل الذي يعد من اسس الفكر الماركسي ومن اولياته، وليس مهما دعواه بانه فكر يهدف الى تغيير العالم وليس مجرد تفسيره (صفحة 39 في تعليقه في الطبعة الثانية وصفحة 84 من متن الكتاب). لكنه يقول راسا بعد ذلك: .. بتغيير وعي الانسان بوصفه اداة للتاريخ و(الفاعل) في التاريخ والواقع.
وهذا تشويه للماركسية لان قدرة الانسان حسب الماركسية في ممارسة دوره مرتبطة بقانون الضرورة (بمعناها الفلسفي كضد للحرية) وهكذا فابو زيد يعطي دورا للانسان لم تعطه له الماركسية. وعدا عن ذلك فذكر الجدل (الديالكتيك) هنا غير مبرر، فالجدل، وهو الالية التي يسير التطور بموجبها، ليس مطروحا في نقد الفكر الاسلامي للماركسية الا في قليل من الدراسات النظرية النقدية.
والجدل الذي يطرحه ابو زيد ليس جدلا بل هو علاقة خطية وقف لها جدل هيغل ومن تاثر به، ومنهم ماركس، بالمرصاد. فابو زيد يقول عن النصوص الدينية انها تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وهي محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة في المفهوم (119). وهذا ليس جدلا، لا بالمعنى الهيغلي ولا بالمعنى الماركسي، فتثبيت طرف في المعادلة عملية اجرائية في العلوم وفي الفكر، لكن الجدل لايسلم بهذا، وهذه العلاقة بين طرف ثابت وطرف متغير علاقة خطية وليست جدلية، ولو كانت جدلية لكانت سير من موضوع الى نقيض ثم من هذا النقيض الى نقيض النقيض في عملية تطورية تصاعدية، اما تاثير العصر على قراءة النص بما يجعل المغزى يتغير بتغير العصر فهو لايرقى حتى الى العلاقة التبادلية، التي لاتعد جدلا، والتي تستوجب تاثير العصر والمغزى الجديد على المنطوق مما يؤدي الى تغير ذلك المنطوق.
اخطاء في المعطيات وارى من الضروري في نهاية المقال ان اشير سريعا الى بعض الاخطاء الخاصة بالتفسير والحديث والتاريخ والفكر الاسلامي، وهي اخطاء تقلل من مصداقية مشروع ابي زيد من ناحية ان اي مشروع يجب ان يعتمد على معطيات صحيحة، لكن عندما تكون المعلومات خاطئة يصبح الخطأ في الاستنتاج شبه حتمي:
1-يخطئ فهم الفكر الاسلامي وبالاخص فكر سيد قطب حيث يقول ان الخطاب الديني يختزل دور الاسلام في تحرير البشر من العبودية (بالمعنى القديم) لبعضهم البعض وابدالها بالعبودية لله (133) ثم يؤكد فهمه للعبودية تلك بالعبودية الجسدية: ((.. لو ان الاسلام كان مجرد حركة تحريرية لالغاء الرق والعبودية وتحرير العبيد)) ويستطرد في الكلام حول ذلك ويبني عليه نقده. والصحيح هو ان المقصود بتحرير البشرمن العبودية هو العبودية بمعني الخضوع للبشر واديانهم المخترعة او المحرفة وللكنهة وللملوك وتشريعاتهم، وهذا موضوع معروف يجعل المرء يتسائل ان كان ابو زيد قد اطلع على الفكر الاسلامي من مصادره الاصلية، بل وحتى على التاريخ الاسلامي (حديث ربعي بن عامر مع رستم، قائد الفرس، حول رسالة الاسلام لتحرير البشر من عبودية بعضهم لبعض بالمعنى المذكور انفا).
2-((تثبيت نص الحديث في الصحاح الخمسة-او الستة- وعلى راسها البخاري ومسلم))(127). وعدا عن تعبير الصحاح الستة او الخمسة، فلم يحصل ان تم تثبيت نص الحديث في تلك الكتب، بل حتى لم يتم تثبيت الحديث الصحيح فيها فقط، بل يؤخذ الحديث، الصحيح وغيره، منها ومن غيرها.
3-قوله بعدم قبول اهل السنة للحديث الذي يرويه مخالفوهم، ليس فقط من الفرق الاخرى كالشيعة بل رفض كل فرقة من السنة لروايات الفرق الاخرى من السنة (129).
وهذا ليس على اطلاقه والخلاف في الرواية عن ((اهل البدع)) او ((اهل الاهواء)) معروف بين علماء الحديث والاكثر على قبول روايتهم ان اتصفوا بالعدل والضبط، وقد انكر ابن الصلاح الشهرزوري عدم الرواية بسبب البدعة وقال ان هذا بعيد عن فعل الائمة وقد روى البخاري ومسلم الكثير عن اهل الاهواء. وقد روى البخاري عن عمران بن حطان الخارجي الذي مدح عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي بن ابي طالب، وقد قال الحافظ الذهبي عن احد الرواة الشيعة بانه شيعي جلد لكنه صدوق وذكر بان احمد بن حنبل واخرين وثقوه.
4-يذكر من شروط رواية الحديث ان يكون من يروي الحديث قد لقي من اخذ منه الحديث مباشرة (128) وهذه هنة كبيرة فهذا الشرط معروف مشهور وهو خاص بالبخاري. ويقول ايضا ان يكون التلقي مشافهة لا نقلا عن صحيفة او ماشابهها (128) وهذا ليس بشرط لان الشرط هو الضبط (بجانب العدالة) فيكون الضبط في الحفظ ويكون ايضا في الصحيفة التي يروي منها ان لم يروي من حفظه، وهناك انواع من الرواية بالصحيفة مثلا مايعطيه الشيخ للراوي عنه ويقول له ارو عني هذا، وبالطبع مع وجود الخلاف بين العلماء حول تلك الانواع او انواع فرعية منها.
ويبقى الكثير مما يمكن مناقشته ونقده حول "الحاكمية" و"النص" و"دور رجال الدين".. مما لايمكن تغطيته في مقالة واحدة. وتجعلنا الاخطاء الخاصة بالمعلومات والانتقائية والانحياز لدى ابي زيد نبحث عن مقتربات اخرى لدراسة النص الديني تتجنب تلك العيوب وتحمينا من التناقض ومن العقم المعرفي والعملي.
نشرت المقالة في جريدة الصباح العراقية
نشرت المقالة في التصميم القديم لموقع زاكروس: 2010-10-18
www.zagros.org/content/arabic/arabic-2010-10-18-015.html
02-06-2016 www.zagros.org/arabic-articles-2016-06-02-122121 19066 مشاهدة |